هل مررتَ يومًا بذلك الشعور حين تنغمس في سراديب عقلك، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والوهم؟ تجلس في مواجهة ذاتك (أنت وأنت فقط)، وتقيم محكمة شرسة؛ قاضيها أنت، والمتهم أنت، حين تحاكم نفسك على كل زلَّةٍ وهفوة؟
إنّ الإنسانَ جُبِلَ على العثرات والزلات، لا لِيُجْلَدَ على زلاته، بل لِيُصقَلَ بها ولكن، متى تُصبحُ هذه الزلّاتُ عُرْضَةً لمُحاكمةٍ لا تنتهي؟ ومتى بدلاً من أن يتحولُ الضميرُ إلى دافع للتغيير يتحول إلى جلّادٍ لا يرحم؟
غالبًا مانخلط بين مفهومين متجاورين، لكنهما متباعدان في الأثر:
جلد الذات وتأنيب الضمير
جلدُ الذات
حيث تُعادُ الهفواتُ وتُجترُّ المآسي، فتُحيلُ العقلَ إلى مَرْتَعٍ خِصْبٍ للقلقِ والكآبة. هنا، يصبحُ الماضي ثقلاً لا يُطاق، يُطفئُ ما تبقّى من جذوةٍ في القلب، ويُخلِّفُ رمادَ العزيمةِ. إن هذا الشعورَ لا يُريدُ الإصلاح، بل الإهْلاك. هو لا يدفعُك للمُضيِّ قدمًا، بل يُقيِّدُكَ في مكانكَ، عاجزًا عن الحركة، مُثْقَلاً بأوزارِ الأمس التي لا تنتهي. ليس صوتَ انتقادٍ بناءٍ، بل توبيخًا لاذعًا يُقوِّضُ أسس الثقة بالنفس ويُدمِّرها. يصبح العقل ساحةَ قتالٍ لا تنتهي معاركها أبدًا، وتظل فيها الذاتُ مَثْخونةً بالجراح.
أما تأنيب الضمير
فهو صوت الحق، ذلك الصوت الملحاح الذي يوقظك ليعيدك إلى الطريق الصحيح. يشبه النور الخافت في عتمة الخطأ، وهو الدافع نحو التغيير للأفضل، صوت يمنعك من السقوط في هاوية التيه والخطأ. هذا الشعور بالذنب يُعطيك فرصةً للتأمل والمساءلة، لكنه لا يُقيِّدُك؛ إنه يجعلك تعي خطأك، لا لتجلد نفسك، بل لتتعلم.
إنَّ الخلاصَ من سجنِ جلدِ الذاتِ ليسَ معضلةً عظمى ولا طريقًا وعرًا، بل هو سَيْرٌ واعٍ على خُطىً مُدركة. فبعدَ أنْ أبصرتَ الفرقَ بين جلدِ الذات وتأنيب الضمير، إليكَ طريق عودتكَ إلى ذاتكَ:
مِحرابُ الاعتراف: لا تتوارَ عن خطئكَ. اجلسْ في محرابِ التفكرِ، وواجهْ هفوتكَ لا لِتُحاكمها، بل لتصغي إلى ما تُخبرك به ذاتك عن نفسك. إنّ فهمَك للأسبابِ التي قادتكَ إلى الخطأ هو أولُ خطواتِ الإدراك، وأولُ فسحةٍ للوعي.
لولا الخطأ: امنحْ نفسك ذلك المأوى الذي تُقدمهُ للآخرين. ترفَّقْ بذاتك كما تُرفِّقُ بصديقٍ وحبيبٍ عزيزٍ إذا أخطأ. لا تُحمِّلْها ما لا تطيقُ من لومٍ وتوبيخٍ يدفعك لكره ذاتك. تذكَّرْ أنّ جبلةَ الإنسانِ لا تُصقَلُ بصروحِ إنجازاته، بل تُنْحَتُ بوقعِ عثراته. ففي كلِّ زلَّةٍ، تتجلَّى لنا سرائرُ ذواتِنا، ونكتشفُ جوانبَ خفيَّةً منَّا لم نكن لنعرفها لولا ذلك الخطأ.
سبيلُ العِبرة: لا تجعلْ من خطئكَ عائقاً، بل اجعلْ منه عتبةً ترتقي عليها. حوِّلْ مرارةَ التجربةِ إلى ينبوعٍ من الحكمة. فكلُّ سقطةٍ هي درسٌ، وكلُّ زلَّةٍ هي فرصةٌ للنمو. إنَّ التغييرَ لا يبدأُ باليأسِ من ماضيكَ والنحيبِ على ذاتك، بل بسعيكَ للتغييرِ.
إن التحرر من سجن جلد الذات ليس بالخلاص الذي يأتيك من الخارج، بل هو نقطة انطلاقٍ تبدأ من دواخل ذاتك، قرارٌ واعٍ بإطلاق سراح نفسك من قيود الماضي، وعهدٌ بالبدء من جديد. أساسُ هذا التحرر القبولُ والتسامحُ مع ذاتك وأخطائك، ودروسُه العبرةُ من كلِّ سقطة.
وسؤالي لك الآن يا عزيزي القارئ، يا من في غيهَبِ نفسِه يَتيهُ، متى تُعلنُ عتقَ ذاتِكَ من حُكْمِ ذاتِكَ، وتُبرئَها من جَورِ لَومِها الأبَدي؟
هذه المقالة هي حصادُ اطلاعي، وهي محاولة لصياغة ما استقرّ في ذهني من قراءات وبحوث بالأضافة إلى رأيي الشخصي.
جدا حلو
طرح ثري ♥️